على الرغم من هول الضربات التي تعرض لها لبنان، لا سيما "حزب الله"، في الأيام الماضية، إلا أنه بات من الضروري إعادة قراءة المشهد العام، منذ عملية "البايجر" إلى لحظة إغتيال أمين العام السيد حسن نصرالله، لفهم حقيقة ما كان يحصل على هذا الصعيد، لا سيما أن الكثير من التقديرات الخاطئة كانت قد برزت في تلك المرحلة، الأمر الذي يساهم في إعادة فهم المشهد بطريقة أفضل.
عند تنفيذ إسرائيل عملية "البايجر"، طُرحت الكثير من الأسئلة حول أسباب إستخدام تل أبيب هذه الورقة في هذا التوقيت، على قاعدة أن وقعها سيكون أكبر فيما لو إستخدمتها قبل الذهاب إلى فرضية الغزو البري، حيث كانت الفرضية الأكثر إنتشاراً أنها شعرت بإحتمال إكتشافها من قبل "حزب الله"، لكن في اليوم الثاني ذهبت إلى تنفيذ عملية "اللاسلكي"، ثم إستهداف قادة فرقة "الرضوان" بغارة جوية في منطقة القائم.
بعد ذلك، كان من الواضح أن إسرائيل قررت الذهاب بعيداً في الغارات الجوية التي تنفذها في العديد من المناطق اللبنانية، تحديداً في الجنوب، حيث كان المطلوب دفع سكان القرى والبلدات إلى النزوح نحو أماكن أخرى، بهدف خلق ورقة ضاغطة على قيادة "حزب الله"، تمثل عمل إرباك لها، خصوصاً أن التعامل مع هذه المسألة يتطلب إستنزاف الكثير من الطاقات، وقد يكون شرارة إنطلاق مواجهات في بعض الأماكن، في ظل الكم الهائل من الشائعات التي كانت تتحدث عن إشكالات متنقلة يتعرض لها هؤلاء.
عند هذه النقطة، كانت تل أبيب قد نجحت في تحقيق أكثر من هدف: ضرب أجهزة إتصالات الحزب، ضرب قوة النخبة في الحزب، ضرب بيئته الحاضنة، لكن لم يكن الكثيرون يدركون حقيقة ما تخطط له، حيث كانت التقديرات تصب في صالح أنها تسعى إلى خلق واقع جديد، تريد من خلاله فرض معادلة جديدة على "حزب الله"، تقوم على أساس ربط عودة سكان المستوطنات الشمالية إلى منازلهم بعودة سكان الجنوب إلى منازلهم، بينما كان الحزب يُصر على التمسك ربط الأمر بوقف إطلاق النار في قطاع غزة.
في ذلك الوقت، كان الحديث عن إتصالات دبلوماسية للذهاب إلى إتفاق لوقف إطلاق النار، حيث برز طرح هدنة من 21 يوماً، تضاربت الأنباء حول الموقف الإسرائيلي منها، قبل أن يصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو يعلن فيه مواصلة المباحثات، لكن على أرض الواقع كان التخطيط لعملية إغتيال أمين عام "حزب الله"، لاستكمال الأهداف، عبر توجيه أكبر ضربة معنوية تستهدف القائد الرمز، بالتزامن مع إغتيال العديد من القيادات العسكرية في الحزب.
ما تقدم، يقود إلى فرضية أن إسرائيل كانت تنتظر الفرصة المناسبة، لتنفيذ هذا المخطط المتكامل، الذي لا يمكن أن يكون من دون غطاء أميركي، بعد أن كانت قد عملت على الإعداد له لسنوات طويلة، حيث من المستحيل أن تكون قد نجحت في تحقيق هذا الكم من الخروقات الذي قادها إلى جمع كل هذه المعلومات الإستخبارية خلال أشهر فقط، فواشنطن، حتى ولو كانت تعلن أنها لا تريد الوصول إلى خيار الحرب الشاملة، لم تكن لتمانع تنفيذ هذه الضربة لجسم الحزب، الذي يعتبر، من وجهة نظر الكثيريين، الورقة الإقليمية الإيرانية الأهم.
ماذا بعد؟
قبل البحث في ما يمكن البناء عليه من إحتمالات في هذا المجال، من الضروري الإشارة إلى أن المخطط لا يتوقف عند ما ذكر في الأعلى، بل أن هناك ما هو أبعد من ذلك، يتعلق بشكل أساسي بضرب الروح المعنوية في صفوف الحزب والبيئة الحاضنة، منها التركيز على سردية أن إيران باعت الحزب، في إطار المفاوضات التي كانت تقوم بها مع الولايات المتحدة، بالرغم من رسم أكثر من علامة إستفهام حول ذلك، أبرزها أن طهران، من دون الحزب، ستكون أضعف في أي مفاوضات تخوضها.
أما بالنسبة إلى السؤال الأساسي: ماذا بعد؟ من المؤكد أن الأمر يتوقف على قدرة "حزب الله" على إعادة لملمة أوضاعه، سياسياً وعسكرياً، بالدرجة الأولى، بينما في الجانب الإسرائيلي تبرز العديد من المؤشرات عن حالة من "النشوة"، تشعر بها القيادتين السياسية والعسكرية، تدفعهما إلى الإنتقال إلى مرحلة إستهداف باقي فصائل المقاومة على هذه الساحة، بالتزامن مع الحديث عن إمكانية التقدم براً، لخلق حزام أمني داخل الأراضي اللبنانية، أو على الأقل السعي للإستمرار في ضرب بنية "حزب الله" العسكرية.
في المقابل، من المتوقع أن تبدأ موجة جديدة من المفاوضات الدبلوماسية، ستطرح فيها على الجانب اللبناني الشروط الإستسلامية، تحت وقع الضغوط العسكرية، التي قد تتوسع في حال ظهرت ممانعة من قبل بيروت بهدف زيادة الضغوط إلى الحد الأقصى، وهو ما كانت معالمه قد بدأت بالظهور، عبر الحديث الإسرائيلي عن رفض خيار التسوية والتلميح لفرضية إعادة النظر بإتفاق ترسيم الحدود البحرية.